أما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فقد لاقى أيضاً أشد المعاناة، ولا يشك ولا يماري أحد في أنه من أولي العزم، وأنه أول من يوصف بذلك، فهو عليه الصلاة والسلام الذي دعا البرية كلها إلى الله، ولم يبعثه الله إلى قوم بأعيانهم، بل إلى الناس جميعاً، ولقي في الله ما لقي من أذى قومه ومن تكذيبهم.
ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه جرد السيف للجهاد، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج مع المؤمنين في وسط المعركة؛ في بدر وفي أحد وفي حنين وفي تبوك وفي فتح مكة، وكان يقود الجيش بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ما عدا السرايا، وكان يجاهد المنافقين كما أمره الله تعالى بجهادهم، ولقي منهم ما لقي من التهم والافتراءات حتى إنهم قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وبرأها الله.
وما كتبه أهل السير يوضح لنا كيف حوصر -صلوات الله وسلامه عليه- في الشعب، وكيف كذبه قومه، وكيف رده أهل الطائف ورجموه، وكيف ردته القبائل في الموسم، حين كان يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى... حتى قدم الأنصار وبايعوه وآمنوا به.
ثم لاقى من اليهود ومن المنافقين ومن ضعاف الإيمان ما لاقى..!
وربى أصحابه على الإيمان، فكل من آمن به صلوات الله وسلامه عليه لم يتلق الدين كلمات تحفظ فحسب؛ وإنما تربى على ذلك، وزكاه النبي بهذا الدين.
فالأعرابي الذي كان قبل الإسلام جلفاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وكان يأكل الميتة ويعبد الصنم ويدفن البنت، بعد أن تزكى بالتزكية المحمدية ورباه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، إذا به ينقلب شخصاً آخر.
وإذ بأولئك الذين كانوا في شر حال يصبحون أعلام الدنيا وسادات الحكمة وسادات العلم وسادات العقل في العالم كله، وإذ بالكلمات التي يقولونها كأنها عبارات من النور للإنسانية في جميع العصور.
وهذا لا يتأتى إلا بتعب وبشدة وبمشقة.
فكل أنواع المشقات عانى منها النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد جاهد في الله حق جهاده، وبلغ الذروة والقمة في كل مجال من مجالات حياته؛ حتى إنه كان يعاني من شدة نزول القرآن ما يعاني: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا))[المزمل:5].
فكل ذلك تحمله صلوات الله وسلامه عليه، مع قيامه بحق ربه تعالى في عبادته، ومع قيامه بحق زوجاته -وهن كثر- ومع قيامه بحق القرابة وحق الجار؛ فلم يفرط في شيء من ذلك.
فكل الحقوق قام بها صلوات الله وسلامه عليه جميعاً خير قيام وأفضله، وبعضها مما لا يتحمله أي أحد.
وكان صلوات الله وسلامه عليه في مرضه يوعك كما يوعك الرجلان، أي: أن الحمى كانت تصيبه ضعف ما تصيب أي رجل من الناس، وتحمل هذا كله، وهو في ميزانه صلوات الله وسلامه عليه.
وليس مقصودنا تفصيل حياة هؤلاء الخمسة، وإنما المقصود أن نبين شيئاً مجملاً عن هؤلاء الرسل الخمسة الكرام أولي العزم، وذلك لما لاقوا وصبروا وتحملوا.